سياسات بايدن المزدوجة- أوكرانيا وغزة تفضحان الأهداف الأمريكية

المؤلف: محمود عبد الهادي11.16.2025
سياسات بايدن المزدوجة- أوكرانيا وغزة تفضحان الأهداف الأمريكية

مع اقتراب الحرب الروسية الأوكرانية من إتمام عامها الثاني، وتزامنًا مع بلوغ العدوان الصهيوني على قطاع غزة شهره الخامس، يتبدى بوضوح فشل الطرفين المتحاربين في تحقيق الأهداف التي أعلنوها عند اندلاع الصراعات. والنتيجة الأبرز هي المعاناة الهائلة التي لحقت بالمدنيين الأبرياء، والتدمير الممنهج للبنى التحتية والفوقية، إضافة إلى تعطيل عجلة الاقتصاد والإنتاج في شتى مناحي الحياة؛ سواء على الصعيد السياسي، أو العسكري، أو الاقتصادي، أو الصناعي، أو العلمي، أو التعليمي، أو الاجتماعي. هذا الأمر أدى إلى حالة من الشلل شبه التام، وأعاد المنطقة برمتها سنوات إلى الوراء.

لم تكن الولايات المتحدة بمنأى عن هذين الصراعين الداميين، فبدلًا من أن تتبوأ مكانتها كقائدة للعالم في هذا المنعطف التاريخي الحرج؛ انغمست في لجج الدماء حتى أضرّ ذلك بمصداقية الشعارات والخطط التي رفعتها إدارة الرئيس جو بايدن، والتي لم يتبق منها سوى القليل قبل انتهاء ولايته. والأخطر من ذلك، أن هذه السياسات قد ألحقت ضررًا فادحًا بالأهداف الإستراتيجية للأمن القومي الأميركي، في جوانبه السياسية والعسكرية والاقتصادية.

إن السياسات التي انتهجتها الولايات المتحدة وحلفاؤها حيال الحرب في أوكرانيا والعدوان على غزة، قد كشفت بجلاء عن الأهداف الإستراتيجية القومية المبطنة، والتي تتطلب تصحيحًا جذريًا للممارسات، وإخضاعها لميزان العدالة الناجز، الذي لا يعرف ازدواجية المعايير، ولا يفرق بين بني البشر.

فهم الأهداف الإستراتيجية لإدارة بايدن

تحت راية "إعادة بناء أميركا بشكل أفضل"، خاض الرئيس جو بايدن معركته الانتخابية في عام 2020، وتمكن من التفوق على منافسه الجمهوري دونالد ترامب، ليتبوأ سدة الرئاسة في الولايات المتحدة، ويصبح الرئيس السادس والأربعين للبلاد للفترة الممتدة بين عامي 2021 و2025. وانطلاقًا من هذا الشعار الطموح، قام بايدن بتحديد الأهداف الإستراتيجية للأمن القومي الأميركي، والتي أعلن عنها في شهر مارس من عام 2021، وتضمنت العناوين الرئيسية التالية:

  • حماية الشعب الأميركي من كل خطر.
  • توسيع نطاق الأمن الاقتصادي، وتوفير المزيد من الفرص للازدهار.
  • تعزيز القيم الديمقراطية الراسخة في الولايات المتحدة ونشرها في الخارج.

وأوضح الرئيس بايدن أن تحقيق هذه الغايات الإستراتيجية النبيلة يتطلب جملة من الإجراءات، أبرزها:

  • الدفاع عن مصادر القوة الجوهرية للولايات المتحدة، وتعزيزها باستمرار.
  • ردع الخصوم المحتملين، ومنعهم من تهديد أمن الولايات المتحدة وحلفائها.
  • قيادة النظام العالمي بحكمة واقتدار، وترسيخ أسس التعاون الدولي.
  • تنشيط التحالفات والشراكات القائمة في جميع أنحاء المعمورة وتوسيعها.

وفي أول خطاب رسمي له بتاريخ 4 فبراير 2021، أكد بايدن أن إدارته ستشرع في العمل الدؤوب لتحقيق تلك الأهداف الإستراتيجية للأمن القومي الأميركي، وذلك من خلال المسارات الخمسة الآتية:

  1. إعادة أميركا إلى موقع القيادة في العالم، واستعادة نفوذها ومكانتها.
  2. مواجهة التحديات التي تفرضها كل من الصين وروسيا؛ فالأولى تُعد المنافس الأكبر للولايات المتحدة على الصعيد الاقتصادي، والثانية تسعى لتقويض الديمقراطية الأميركية وإضعافها.
  3. إصلاح ما أفسدته سياسات الرئيس السابق دونالد ترامب مع حلفاء الولايات المتحدة في الاتحاد الأوروبي ومنظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، والشروع الفوري في إعادة بناء التحالفات الإقليمية والدولية ودعمها بكل السبل.
  4. تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم، والعمل على إنهاء النزاعات الإقليمية المستعرة في مناطق مختلفة، مثل اليمن وليبيا والسودان (وغيرها في منطقة الشرق الأوسط).
  5. تعزيز الدبلوماسية الأميركية، وجعلها الأداة المحورية لاستعادة المكانة العالمية المرموقة للولايات المتحدة، وإدارة علاقاتها مع المنافسين على أساس المصالح المشتركة، وتجنب الصدام بأي ثمن.

وقد حملت كلمة الرئيس بايدن أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر سبتمبر من عام 2021، بشائر عالم مزدهر يسوده الاستقرار والتعاون والتعايش السلمي والمساواة، ويحقق أهداف التنمية المستدامة التي وضعتها الأمم المتحدة. إلا أن هذه الكلمات ظلت مجرد وعود موسمية، ولم تتجاوز أهميتها قيمة الورق الذي كُتبت عليه.

عن أي ديمقراطية تتحدث الإدارة الأميركية، وهي تدعم الأنظمة الاستبدادية والقمعية ما دامت تلبي مطالبها وتحافظ على مصالحها؟ وعن أي حقوق إنسان تتغنى بها وهي ترفض الدعوات المتكررة لوقف إطلاق النار الفوري في غزة، التي تجاوز عدد ضحاياها المدنيين في خمسة أشهر فقط، خمسة أضعاف عدد الضحايا المدنيين الأوكرانيين على مدار عامين كاملين؟

تجليات السياسة العوجاء

إن الممارسات التي انتهجتها الإدارة الأميركية حيال الحربين الطاحنتين الدائرتين في كل من أوكرانيا وقطاع غزة، قد وضعت المسارات الخمسة السابقة على المحك، وكشفت النقاب عن التضليل المبطن فيها، وعن حجم الضرر الذي لحق بها وبالأهداف الإستراتيجية للأمن القومي الأميركي، والتي انهارت تحت وطأة الدمار والأشلاء. وهذا الانهيار لم يكن نتيجة السياسة المتعثرة التي اتبعها الرئيس بايدن فحسب، بل هو نتاج السياسات الخاطئة التي دأبت الإدارات الأميركية المتعاقبة على اتباعها بشكل عام. وفيما يلي نستعرض أبرز التجليات التي توضح ذلك بجلاء:

  • لم يمض عام كامل على تحديد تلك المسارات، حتى اجتاحت القوات الروسية أجزاء واسعة من المحافظات الشرقية لأوكرانيا في 24 فبراير 2022، وذلك بعد أن فشلت الدبلوماسية الأممية والأميركية والغربية بشكل سريع في احتواء الأزمة ومنع اندلاع الحرب.

وفي تفسير محتمل، يمكن القول إن هذا الفشل كان متعمدًا؛ لأن تلك الجهود الدبلوماسية لم تنطلق أبدًا من منطلق الحرص الحقيقي على احتواء النزاعات وتعزيز الاستقرار في العالم. بل إنها تجاهلت عن عمد الأسباب الجذرية التي دفعت روسيا إلى التحرك عسكريًا، واكتفت بمطالبتها بالانسحاب الفوري وغير المشروط، دون تقديم أي ضمانات ملموسة تدفعها بعيدًا عن الخيار العسكري.

وقد شكل ذلك فضيحة مدوية لادعاءات إدارة بايدن بشأن سعيها الحثيث لتعزيز الدبلوماسية، باعتبارها "السبيل الوحيد لاستعادة المكانة العالمية للولايات المتحدة، وإدارة علاقاتها مع المنافسين على أساس المصالح المشتركة وتجنب الصدام".

كان بالإمكان تجنب اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية قبل وقوعها، وحقن دماء أكثر من نصف مليون جندي سقطوا بين قتيل وجريح، منهم ما يزيد على 300 ألف روسي وأكثر من 200 ألف أوكراني، بالإضافة إلى أكثر من 10 آلاف قتيل و18500 مصاب من المدنيين الأوكرانيين، وذلك حسب تقديرات الأمم المتحدة.

كان بالإمكان نزع فتيل الأزمة والكف عن زراعة ما يقرب من 175 ألف لغم في 30% من الأراضي الأوكرانية، والتي تحتاج إلى 757 عامًا لإزالتها بالكامل، وذلك وفقًا لتقديرات الأمم المتحدة.

كان بالإمكان إيقاف الحرب، وتوفير نحو 350 مليار دولار تم إنفاقها واعتمادها للعام الجاري، من أموال دافعي الضرائب الأميركيين والأوروبيين، لتسديد فاتورة الحرب العسكرية والمالية والإنسانية في أوكرانيا. وهو المبلغ الذي تجاوز حجم الدعم الذي قدمته الولايات المتحدة عام 1948، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، بموجب خطة مارشال لإعادة إعمار وتشغيل الاقتصاد والمصانع الأوروبية، والذي بلغ آنذاك 13.3 مليار دولار، أي ما يعادل 173 مليار دولار عام 2023.

كان بالإمكان وقف الحرب وتوفير 486 مليار دولار تحتاجها أوكرانيا للتعافي وإعادة بناء اقتصادها المتهالك على مدى 10 سنوات، وذلك حسب تقديرات البنك الدولي الأخيرة. بالإضافة إلى توفير تكلفة الأضرار التي بلغت في العامين الماضيين 152 مليار دولار، إضافة إلى نصف تريليون دولار قيمة الخسائر الناجمة عن تعطل الاقتصاد التجاري والتكاليف المرتبطة بالحرب، فضلاً عن تكاليف إعادة الإعمار التي تحتاج الأعمال العاجلة منها لعام 2024 نحو 15 مليار دولار، حسب تقديرات البنك الدولي.

  • عادت الولايات المتحدة لتمارس دورها القيادي في العالم، وتحدثت إدارة بايدن مرارًا وتكرارًا عن تعزيز النظام العالمي القائم على القواعد، لكن هذه العودة ظلت ذات طابع دعائي، ولم تتحول إلى حقيقة واقعة إلا فيما يتعلق بالدول الحليفة أو الشريكة للولايات المتحدة.

فقد أظهرت الحربان في أوكرانيا وغزة أن هذه القواعد ليست سوى مجموعة من الأحكام والسياسات التي تهدف إلى تعزيز هيمنة الولايات المتحدة، وتحقيق مصالحها ومصالح حلفائها، واستعمالها بالطريقة التي تراها مناسبة للحفاظ على سلامة واستقرار هذه المصالح.

وقد قدم ذلك مبررات قوية للدول التي تطالب بإعادة بناء النظام العالمي وتحريره من الهيمنة الأميركية وحلفائها، وفي مقدمتها الصين وروسيا.

  • لقد فضحت الحرب الروسية في أوكرانيا والعدوان الصهيوني على غزة هذا النظام العالمي المختل، الذي لا يعمل إلا لصالح الولايات المتحدة وحلفائها.

ولذا نراها تدعم بقوة حق أوكرانيا في الاستقلال والحرية والسيادة الكاملة على أراضيها، وتطالب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالانسحاب الفوري وغير المشروط من الأراضي الأوكرانية المحتلة، وتفرض عليه صنوفًا شتى من العقوبات، وتقدم للحكومة الأوكرانية (الضحية) كافة أشكال الدعم السياسي والعسكري والأمني والمالي والإنساني، لتمكينها من إلحاق الهزيمة بروسيا (الجاني) التي يجب على الدول الغربية ألا تسمح لها بالانتصار.

وعلى النقيض تمامًا، تقف الإدارة الأميركية موقف الداعم والمساند للكيان الصهيوني (الجاني) في حربه الشرسة على غزة، وتوفر له شتى أنواع الدعم السياسي والعسكري والمالي والإنساني، لتمكينه من الانتصار على حركة حماس والشعب الفلسطيني المحاصر في قطاع غزة (الضحية)، الذين لا تعترف الولايات المتحدة بإنسانيتهم، ولا بحقهم المشروع في مقاومة الاحتلال واستعادة حقوقهم السليبة التي كفلها لهم القانون الدولي والإنساني.

إنها ازدواجية المعايير المشينة التي كشفت بصورة صارخة عن طبيعة النظام العالمي الذي تتحدث عنه الولايات المتحدة وحلفاؤها، والذي بات مثار سخرية الغالبية العظمى من بني البشر، حتى داخل الولايات المتحدة والدول الغربية نفسها.

وقبل أوكرانيا وغزة، سقط هذا النظام سقوطًا مدويًا عندما واصلت الولايات المتحدة دعمها المطلق لتايوان سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا في مواجهة الصين، على الرغم من اعترافها الرسمي بسيادة الصين على تايوان.

وقد زاد العدوان الصهيوني على قطاع غزة من تعرية هذا النظام العالمي القائم على القواعد الأميركية، عندما عطلت الولايات المتحدة عمل المؤسسات الدولية المنوط بها تطبيق هذا النظام، وعلى رأسها الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، ومنظمة الصليب الأحمر الدولي، ووكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، ومنظمة الصحة العالمية، وغيرها من المنظمات الداعمة لوقف إطلاق النار في قطاع غزة. كما منعت الولايات المتحدة مجلس الأمن الدولي للمرة الثالثة على التوالي من اتخاذ قرار ملزم يلزم الكيان الصهيوني بوقف عدوانه الغاشم على القطاع.

  • لقد نجحت إدارة الرئيس بايدن إلى حد كبير في إعادة بناء تحالفات الولايات المتحدة مع الدول الغربية ودول الشرق الأوسط ومنطقة جنوب شرق آسيا، والتي تضررت بشدة خلال فترة رئاسة الرئيس السابق دونالد ترامب.

ولكن سرعان ما كشفت الحرب الروسية على أوكرانيا أن هذه التحالفات ليست مجرد رد فعل على سياسات ترامب، وإنما هي بمثابة حشد لقوى العالم ضد روسيا والصين، وفرض الخطط والمشروعات الأميركية الإقليمية والدولية السياسية والاقتصادية على العالم بأسره، بما يحقق الأهداف الإستراتيجية الثلاثة التي حددتها إدارة الرئيس بايدن للأمن القومي الأميركي، وبما يعزز هيمنة الولايات المتحدة وتفردها بزعامة العالم.

وجاء العدوان الصهيوني على قطاع غزة ليؤكد هذا التوجه، عندما هبت الولايات المتحدة وحلفاؤها في صف واحد للدفاع عن (الجاني) والانتصار له على (الضحية)، تمامًا كما هبوا من قبل في وجه روسيا (الجاني) لنجدة (الضحية) المتمثلة في أوكرانيا.

  • لقد كان سلوك الإدارة الأميركية حيال حرب الإبادة الجماعية الصهيونية في قطاع غزة، خير دليل على الخلل المفاهيمي العميق الذي تعاني منه هذه الإدارة فيما يتعلق بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وعلى التناقض الصارخ بين تلك المفاهيم النبيلة وممارساتها التطبيقية في العديد من دول العالم.

فعن أي ديمقراطية تتحدث الإدارة الأميركية، وهي تدعم الأنظمة الاستبدادية والقمعية ما دامت تلبي مطالبها وتحافظ على مصالحها الإستراتيجية؟ وعن أي حقوق إنسان تتشدق بها الإدارة الأميركية وهي ترفض بشكل قاطع وقف إطلاق النار في قطاع غزة، الذي بلغ فيه عدد الضحايا المدنيين ما بين قتيل وجريح في غضون خمسة أشهر فقط، ما يقرب من خمسة أضعاف عدد الضحايا المدنيين الأوكرانيين على مدار عامين كاملين، وذلك على أيدي القوات الروسية التي تحتل المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة كأقوى جيوش العالم، حسب تقرير "غلوبال فايرباور" لهذا العام؟

وما هذا التفاوت الشاسع في أعداد الضحايا المدنيين بين قطاع غزة وأوكرانيا إلا بسبب وقوف الولايات المتحدة وحلفائها في خندق واحد مع الكيان الصهيوني، وتوفير جميع أنواع الدعم اللازم لتحقيق أهدافه المعلنة من الحرب العدوانية. مع العلم أن عدد سكان أوكرانيا قبل اندلاع الحرب مباشرة كان يناهز 44 مليون نسمة.

إن الصورة القاتمة التي رسمتها الولايات المتحدة لنفسها، بعدم احتواء الحرب في أوكرانيا ومساندتها المطلقة للكيان الصهيوني في غزة، قد فضحت تمامًا الأهداف الإستراتيجية القومية للولايات المتحدة، والتي باتت في أمس الحاجة إلى إعادة تقييم شاملة، وإلى ضبط ممارساتها بميزان العدالة المطلقة التي لا تقبل بأي حال من الأحوال ازدواجية المعايير، ولا تميز بين إنسان وآخر.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة